فصل: باب جمع المقيم لمطر أو غيره

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب جمع المقيم لمطر أو غيره

1 - عن ابن عباس رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ وفي لفظه للجماعة إلا البخاري وابن ماجه‏:‏ ‏(‏جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر قيل لابن عباس‏:‏ ما أراد بذلك قال‏:‏ أراد أن لا يحرج أمته‏)‏‏.‏

الحديث ورد بلفظ‏:‏ ‏(‏من غير خوف ولا سفر‏)‏ وبلفظ‏:‏ ‏(‏من غير خوف ولا مطر‏)‏ قال الحافظ‏:‏ واعلم أنه لم يقع مجموعًا بالثلاثة في شيء من كتب الحديث بل المشهور من غير خوف ولا سفر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سبعًا وثمانيًا‏)‏ أي سبعًا جميعًا وثمانيًا جميعًا كما صرح به البخاري في رواية له ذكرها في باب وقت المغرب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أراد أن لا يحرج أمته‏)‏ قال ابن سيد الناس‏:‏ قد اختلف في تقييده فروي يحرج بالياء المضمومة آخر الحروف وأمته منصوب على أنه مفعوله وروي تحرج بالتاء ثالثة الحروف مفتوحة وضم أمته على أنها فاعله‏.‏ ومعناه إنما فعل تلك لئلا يشق عليهم ويثقل فقصد إلى التخفيف عنهم‏.‏ وقد أخرج ذلك الطبراني في الأوسط والكبير ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن مسعود بلفظ‏:‏ ‏(‏جمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال‏:‏ صنعت ذلك لئلا تحرج أمتي‏)‏ وقد ضعف بأن فيه ابن عبد القدوس وهو مندفع لأنه لم يتكلم فيه إلا بسبب روايته عن الضعفاء وتشيعه والأول غير قادح باعتبار ما نحن فيه إذ لم يروه عن ضعيف بل رواه عن الأعمش كما قال الهيثمي والثاني ليس بقدح معتد به ما لم يجاوز الحد المعتبر ولم ينقل عنه ذلك على أنه قد قال البخاري‏:‏ إنه صدوق‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ لا بأس به‏.‏

ـ وقد استدل ـ بحديث الباب القائلون بجواز الجمع مطلقًا بشرط أن لا يتخذ ذلك خلقًا وعادةً‏.‏ قال في الفتح‏:‏ وممن قال به ابن سيرين وربيعة وابن المنذر والقفال الكبير وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث وقد رواه في البحر عن الإمامية والمتوكل على اللَّه أحمد بن سليمان والمهدي أحمد بن الحسين‏.‏ ورواه ابن مظفر في البيان عن علي عليه السلام وزيد بن علي والهادي وأحد قولي الناصر وأحد قولي المنصور باللَّه ولا أدري ما صحة ذلك فإن الذي وجدناه في كتب بعض هؤلاء الأئمة وكتب غيرهم يقضي بخلاف ذلك‏.‏

وذهب الجمهور إلى أن الجمع لغير عذر لا يجوز‏.‏ وحكى في البحر عن البعض أنه إجماع ومنع ذلك مسندًا بأنه قد خالف في ذلك من تقدم‏.‏ واعترض عليه صاحب المنار بأنه اعتداد بخلاف حادث بعد إجماع الصدر الأول‏.‏

وأجاب الجمهور عن حديث الباب بأجوبة‏:‏

منها‏:‏ أن الجمع المذكور كان للمرض وقواه النووي‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وفيه نظر لأنه لو كان جمعه صلى اللَّه عليه وسلم بين الصلاتين لعارض المرض لما صلى معه إلا من له نحو ذلك العذر‏.‏ والظاهر أنه صلى اللَّه عليه وسلم جمع بأصحابه وقد صرح بذلك ابن عباس في روايته‏.‏

ومنها‏:‏ أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم مثلًا فبان أن وقت العصر قد دخل فصلاها‏.‏ قال النووي‏:‏ وهو باطل لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وكأن نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد والمختار عنه خلافه وهو أن وقتها يمتد إلى العشاء وعلى هذا فالاحتمال قائم‏.‏

ومنها أن الجمع المذكور صوري بأن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها‏.‏ قال النووي‏:‏ وهذا احتمال ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وهذا الذي ضعفه قد استحسنه القرطبي ورجحه إمام الحرمين وجزم به من القدماء ابن الماجشون والطحاوي وقواه ابن سيد الناس بأن أبا الشعثاء وهو راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به‏.‏ قال الحافظ أيضًا‏:‏ ويقوي ما ذكر من الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرض لوقت الجمع فأما أن يحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر وأما أن يحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث فالجمع الصوري أولى واللَّه أعلم اهـ‏.‏

ومما يدل على تعيين حمل حديث الباب على الجمع الصوري ما أخرجه النسائي عن ابن عباس بلفظ‏:‏ ‏(‏صليت مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء‏)‏ فهذا ابن عباس راوي حديث الباب قد صرح بأن ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري‏.‏ ومما ‏[‏في الأصل تكرار ‏(‏ومما هو الجمع الصوري‏)‏، وقد تم التصحيح كما هو وارد أعلاه‏.‏ نظام سبعة‏]‏‏.‏ يؤيد ذلك ما رواه الشيخان عن عمرو بن دينار أنه قال‏:‏ يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال‏:‏ وأنا أظنه‏.‏ وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ابن عباس كما تقدم‏.‏

ومن المؤيدات للحمل على الجمع الصوري ما أخرجه مالك في الموطأ والبخاري وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏ما رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها‏)‏ فنفى ابن مسعود مطلق الجمع وحصره في جمع المزدلفة مع أنه ممن روى حديث الجمع بالمدينة كما تقدم وهو يدل على أن الجمع الواقع بالمدينة صوري ولو كان جمعًا حقيقيًا لتعارض روايتاه والجمع ما أمكن المصير إليه هو الواجب‏.‏

ومن المؤيدات للحمل على الجمع الصوري أيضًا ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب ويعجل العشاء فيجمع بينهما‏)‏‏.‏

وهذا هو الجمع الصوري وابن عمر هو ممن روى جمعه صلى اللَّه عليه وسلم بالمدينة كما أخرج ذلك عبد الرزاق عنه‏.‏ وهذه الروايات معينة لما هو المراد بلفظ جمع لما تقرر في الأصول من أن لفظ جمع بين الظهر والعصر لا يعم وقتها كما في مختصر المنتهى وشروحه والغاية وشرحها وسائر كتب الأصول بل مدلوله لغة الهيئة الاجتماعية وهي موجودة في جمع التقديم والتأخير والجمع الصوري إلا أنه لا يتناول جميعها ولا اثنين منها إذ الفعل المثبت لا يكون عامًا في أقسامه كما صرح بذلك أئمة الأصول فلا يتعين واحد من صور الجمع المذكور إلا بدليل وقد قام الدليل على أن الجمع المذكور في الباب هو الجمع الصوري فوجب المصير إلى ذلك‏.‏

وقد زعم بعض المتأخرين أنه لم يرد الجمع الصوري في لسان الشارع وأهل عصره وهو مردود بما ثبت عنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم من قوله للمستحاضة‏:‏ ‏(‏وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين‏)‏ ومثله في المغرب والعشاء وبما سلف عن ابن عباس وابن عمر‏.‏ وقد روي عن الخطابي أنه لا يصح الجمع المذكور في الباب على الجمع الصوري لأنه يكون أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه الخاصة فضلًا عن العامة ويجاب عنه بأن الشارع قد عرف أمته أوائل الأوقات وأواخرها وبالغ في التعريف والبيان حتى أنه عينها بعلامات حسية لا تكاد تلتبس على العامة فضلًا عن الخاصة والتخفيف في تأخير إحدى الصلاتين إلى آخر وقتها وفعل الأولى في أول وقتها متحقق بالنسبة إلى فعل كل واحدة منهما في أول وقتها كما كان ذلك ديدنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حتى قالت عائشة‏:‏ ما صلى صلاة لآخر وقتها مرتين حتى قبضه اللَّه تعالى‏.‏ ولا يشك منصف أن فعل الصلاتين دفعة والخروج إليهما مرة أخف من خلافه وأيسر‏.‏

وبهذا يندفع ما قاله الحافظ في الفتح‏:‏ إن قوله صلى اللَّه عليه وسلم لئلا تحرج أمتي يقدح في حمله على الجمع الصوري لأن القصد إليه لا يخلو عن حرج فإن قلت الجمع الصوري هو فعل لكل واحدة من الصلاتين المجموعتين في وقتها فلا يكون رخصة بل عزيمة فأي فائدة في قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏لئلا تحرج أمتي‏)‏ مع شمول الأحاديث المعينة للوقت للجمع الصوري وهل حمل الجمع على ما شملته أحاديث التوقيت إلا من باب الاطراح لفائدته وإلغاء مضمونه قلت‏:‏ لا شك أن الأقوال الصادرة منه صلى اللَّه عليه وآله وسلم شاملة للجمع الصوري كما ذكرت فلا يصح أن يكون رفع الحرج منسوبًا إليها بل منسوب إلى الأفعال ليس إلا لما عرفناك من أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ما صلى صلاة لآخر وقتها مرتين فربما ظن ظان أن فعل الصلاة في أول وقتها متحتم لملازمته صلى اللَّه عليه وسلم لذلك طول عمره فكان في جمعه جمعًا صوريًا تخفيف وتسهيل على من اقتدى بمجرد الفعل وقد كان إقتداء الصحابة بالأفعال أكثر منه بالأقوال ولهذا امتنع الصحابة رضي اللَّه عنهم من نحر بُدنه يوم الحديبية بعد أن أمرهم صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالنحر حتى دخل صلى اللَّه عليه وسلم على أم سلمة مغمومًا فأشارت عليه بأن ينحر ويدعو الحلاق يحلق له ففعل فنحروا أجمع وكادوا يهلكون غمًا من شدة تراكم بعضهم على بعض حال الحلق‏.‏

ومما يدل على أن الجمع المتنازع فيه لا يجوز إلا لعذر ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر‏)‏ وفي إسناده حنش بن قيس وهو ضعيف‏.‏

ومما يدل على ذلك ما قاله الترمذي في آخر سننه في كتاب العلل منه ولفظه جميع ما في كتابي هذا من الحديث هو معمول به وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين‏:‏ حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر‏)‏‏.‏ وحديث‏:‏ ‏(‏أنه قال صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه‏)‏‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفاك أن الحديث صحيح وترك الجمهور للعمل به لا يقدح في صحته ولا يوجب سقوط الاستدلال به وقد أخذ به بعض أهل العلم كما سلف وإن كان ظاهر كلام الترمذي أنه لم يأخذ به أحد ولكن قد أثبت ذلك غيره والمثبت مقدم فالأولى التعويل على ما قدمنا من أن ذلك الجمع صوري بل القول بذلك متحتم لما سلف‏.‏

وقد جمعنا في هذه المسألة رسالة مستقلة سميناها تشنيف السمع بإبطال أدلة الجمع فمن أحب الوقوف عليها فليطلبها‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى بعد أن ساق حديث الباب ما لفظه‏:‏ قلت وهذا يدل بفحواه على الجمع للمطر والخوف وللمرض وإنما خولف ظاهر منطوقه في الجمع لغير عذر للإجماع ولأخبار المواقيت فتبقى فحواه على مقتضاه‏.‏

وقد صح الحديث في الجمع للمستحاضة والاستحاضة نوع مرض‏.‏ ولمالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم‏.‏ وللأثرم في سننه عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن أنه قال من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء اهـ‏.‏

 باب الجمع بأذان وإقامتين من غير تطوع بينهما

1 - عن ابن عمر رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعًا كل واحدة منهما بإقامة ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدة منهما‏)‏‏.‏

رواه البخاري والنسائي‏.‏

2 - وعن جابر رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم صلى الصلاتين بعرفة بأذان واحد وإقامتين وأتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما ثم اضطجع حتى طلع الفجر‏)‏‏.‏

مختصر لأحمد ومسلم والنسائي‏.‏

3 - وعن أسامة رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئًا‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏ركب حتى جئنا المزدلفة فأقام المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا‏)‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏أتى المزدلفة فصلوا المغرب ثم حلوا رحالهم وأعنته ثم صلى العشاء‏)‏ رواه أحمد وهو حجة في جواز التفريق بين المجموعتين في وقت الثانية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صلى المغرب والعشاء‏)‏ في رواية للبخاري‏:‏ ‏(‏جمع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم المغرب والعشاء‏)‏ وفي رواية له‏:‏ ‏(‏جمع بين المغرب والعشاء‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بإقامة‏)‏ لم يذكر الأذان وهو ثابت في حديث جابر المذكور بعده‏.‏

وفي حديث عبد اللَّه بن مسعود عند البخاري بلفظ‏:‏ ‏(‏فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبًا من ذلك فأمر رجلًا فأذن وأقام ثم صلى المغرب‏)‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم يسبح بينهما‏)‏ أي لم يتنفل بين صلاة المغرب والعشاء ولا عقب كل واحدة منها‏.‏ قال في الفتح‏:‏ ويستفاد منه أنه ترك النفل عقب المغرب وعقب العشاء ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرح بأنه لم يتنفل بينهما بخلاف العشاء فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها لكنه تنفل بعد ذلك في أثناء الليل‏.‏

ومن ثم قال الفقهاء تؤخر سنة العشاءين عنهما‏.‏ ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة لأنهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع بينهما ويعكر على نقل الاتفاق ما في البخاري عن ابن مسعود‏:‏ ‏(‏أنه صلى المغرب بالمزدلفة وصلى بعدها ركعتين ثم دعا بعشائه فتعشى ثم أمر بالأذان والإقامة ثم صلى العشاء‏)‏ وقد اختلف أهل العلم في صلاة النافلة في مطلق السفر‏.‏ قال النووي‏:‏ قد اتفق الفقهاء على استحباب النوافل المطلقة في السفر واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة فتركها ابن عمر وآخرون واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور‏.‏ ودليلهم الأحاديث العامة الواردة في ندب مطلق الرواتب وحديث صلاته صلى اللَّه عليه وآله وسلم الضحى في يوم الفتح وركعتي الصبح حين ناموا حتى طلعت الشمس وأحاديث أخر صحيحة ذكرها أصحاب السنن والقياس على النوافل المطلقة‏.‏

وأما ما في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال‏:‏ ‏(‏صحبت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فلم أره يسبح في السفر‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏صحبت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك‏)‏ فقال النووي‏:‏ لعل النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر فإن النافلة في البيت أفضل ولعله تركها في بعض الأوقات تنبيهًا على جواز تركها‏.‏

وأما ما يحتج به القائلون بتركها من أنها لو شرعت لكان إتمام الفريضة أولى فجوابه أن الفريضة متحتمة فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها وأما النافلة فهي إلى خيرة المكلف فالرفق به أن تكون مشروعة ويتخير إن شاء فعلها وحصل ثوابها وإن شاء تركها ولا شيء عليه‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ إن قول ابن عمر‏:‏ ‏(‏فكان لا يزيد في السفر على ركعتين‏)‏ يحتمل أنه كان لا يزيد في عدد ركعات الفرض ويحتمل أنه كان لا يزيد نفلًا ويحتمل أعم من ذلك‏.‏

قال في الفتح‏:‏ ويدل على الثاني رواية مسلم بلفظ‏:‏ ‏(‏صحبت ابن عمر في طريق مكة فصلى لنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلسنا معه فحانت منه التفاتة فرأى ناسًا قيامًا فقال‏:‏ ما يصنع هؤلاء قلت‏:‏ يسبحون قال‏:‏ لو كنت مسبحًا لأتممت‏)‏ ثم ذكر الحديث‏.‏

قال ابن القيم في الهدى‏:‏ وكان من هديه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في سفره الاقتصار على الفرض ولم يحفظ عنه أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها إلا ما كان من سنة الوتر والفجر فإنه لم يكن يدعها حضرًا ولا سفرًا انتهى‏.‏

وتعقبه الحافظ بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب قال‏:‏ ‏(‏سافرت مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثمانية عشر سفرًا فلم أره ترك ركعتين إذ زاغت الشمس قبل الظهر‏)‏ قال‏:‏ وكأنه لم يثبت عنده وقد استغربه الترمذي ونقل عن البخاري أنه رآه حسنًا‏.‏ وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر انتهى‏.‏

وقد ذكر ابن القيم هذا الحديث الذي تعقبه به الحافظ في الهدى في هذا البحث وأجاب عنه وذكر حديث عائشة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان لا يدع أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها‏)‏ وأجاب عنه واعلم أنه لا بد من حمل قول ابن عمر‏:‏ ‏(‏فلم أره يسبح‏)‏ على صلاة السنة وإلا فقد صح عنه أنه‏:‏ ‏(‏كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه‏)‏ وفي الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين عن عامر ابن ربيعة أنه‏:‏ ‏(‏رأى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته‏)‏‏.‏

قال في الهدى‏:‏ وقد سئل الإمام أحمد عن التطوع في السفر فقال‏:‏ أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس‏.‏ قال‏:‏ وروي عن الحسن أنه قال‏:‏ كان أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها‏.‏ قال‏:‏ وروي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأنس وابن عباس وأبي ذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بأذان واحد وإقامتين‏)‏ فيه أن السنة في الجمع بين الصلاتين الاقتصار على أذان واحد والإقامة لكل واحدة من الصلاتين‏.‏ وقد أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه أمر بالأذان والإقامة لكل صلاة من الصلاتين المجموعتين بمزدلفة‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ لم نجده مرويًا عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ولو ثبت لقلت به ثم أخرج من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث‏.‏

قال أبو إسحاق‏:‏ فذكرته لأبي جعفر محمد بن علي فقال‏:‏ أما نحن أهل البيت فهكذا نصنع‏.‏ قال ابن حزم‏:‏ وقد روي عن عمر من فعله وأخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه ثم تأوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه فأذن لهم ليجتمعوا ليجمع بهم‏.‏

قال الحافظ‏:‏ ولا يخفى تكلفه ولو تأتى له ذلك في حق عمر لكونه كان الإمام الذي يقيم للناس حجتهم لم يتأت له في حق ابن مسعود‏.‏ وقد ذهب إلى أن المشروع أذان واحد في الجمع وإقامة لكل صلاة الشافعي في القديم وهو مروي عن أحمد وابن حزم وابن الماجشون وقواه الطحاوي وإليه ذهبت الهادوية‏.‏

وقال الشافعي في الجديد والثوري وهو مروي عن أحمد‏:‏ إنه يجمع بين الصلاتين بإقامتين فقط وتمسك الأولون بحديث جابر المذكور في الباب وتمسك الآخرون بحديث أسامة المذكور في الباب أيضًا لأنه اقتصر فيه على ذكر الإقامة لكل واحدة من الصلاتين‏.‏

ـ والحق ـ ما قاله الأولون لأن حديث جابر مشتمل على زيادة الأذان وهي زيادة غير منافية فيتعين قبولها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أناخ كل إنسان بعيره‏)‏ فيه جواز الفصل بين الصلاتين المجموعتين بمثل هذا وظاهر قوله ‏(‏ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا‏)‏ المنافاة لقوله في الرواية الأخرى‏:‏ ‏(‏ثم حلوا رحالهم وأعنته ثم صلى العشاء‏)‏ فإن أمكن الجمع إما بأنه حل بعضهم قبل صلاة العشاء وبعضهم بعدها أو بغير ذلك فذاك وإن لم يمكن فالرواية الأولى أرجح لكونها في صحيح مسلم ويرجحها أيضًا الاقتصار في الرواية المتفق عليها على مجرد الإناخة فقط‏.‏

 أبواب الجمعة

 باب التغليظ في تركها

1 - عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة‏:‏ لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

2 - وعن أبي هريرة وابن عمر‏:‏ ‏(‏أنهما ما سمعا النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول على أعواد منبره‏:‏ لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن اللَّه على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين‏)‏‏.‏

رواه مسلم ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر وابن عباس‏.‏

3 - وعن أبي الجعد الضمري وله صحبة‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من ترك ثلاث جمع تهاونًا طبع اللَّه على قلبه‏)‏‏.‏

رواه الخمسة‏.‏ ولأحمد وابن ماجه من حديث جابر نحوه‏.‏

حديث أبي الجعد أخرجه أيضًا ابن حبان والحاكم والبزار وصححه ابن السكن‏.‏ وأبو الجعد قال الترمذي عن البخاري‏:‏ لا أعرف اسمه وكذا قال أبو حاتم وذكره الطبراني في الكنى من معجمه‏.‏ وقيل اسمه أدرع‏.‏ وقيل جنادة وقيل عمرو‏.‏ وقد اختلف في هذا الحديث على أبي سلمة فقيل عن أبي الجعد‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وهو الصحيح‏.‏ وقيل عن أبي هريرة وهو وهم قاله الدارقطني في العلل‏.‏ ورواه الحاكم من حديث أبي قتادة وهو حسن وقد اختلف فيه‏.‏ وحديث جابر الذي أشار إليه المصنف رحمه اللَّه أخرجه أيضًا النسائي وابن خزيمة والحاكم بلفظ‏:‏ ‏(‏من ترك الجمعة ثلاثًا من غير ضرورة طبع على قلبه‏)‏ قال الدارقطني‏:‏ إنه أصح من حديث أبي الجعد‏.‏

ولجابر حديث آخر بلفظ‏:‏ ‏(‏إن اللَّه افترض عليكم الجمعة في شهركم هذا فمن تركها استخفافًا بها وتهاونًا ألا فلا جمع اللَّه له شمله ألا ولا بارك اللَّه له ألا ولا صلاة له‏)‏ أخرجه ابن ماجه وفي إسناده عبد اللَّه البلوي وهو واهي الحديث‏.‏

وأخرجه البزار من وجه آخر وفيه علي بن زيد بن جدعان قال الدارقطني‏:‏ إن الطريقين كليهما غير ثابت‏.‏ وقال ابن عبد البر‏:‏ هذا الحديث واهي الإسناد انتهى‏.‏

ـ وفي الباب ـ عن ابن عمر حديث آخر غير ما ذكر المصنف عند الطبراني في الأوسط بلفظ‏:‏ ‏(‏إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ألا عسى أحد منكم أن يتخذ الضبنة من الغنم على رأس ميلين أو ثلاثة تأتي الجمعة فلا يشهدها ثلاثًا فيطبع اللَّه على قلبه‏)‏‏.‏

وسيأتي نحوه في الباب الذي بعد هذا من حديث أبي هريرة‏.‏ والضبنة بكسر الضاد المعجمة ثم باء موحدة ساكنة ثم نون هي ما تحت يدك من مال أو عيال‏.‏

وعن ابن عباس حديث آخر غير الذي ذكره المصنف عن أبي يعلى الموصلي‏:‏ ‏(‏من ترك ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره‏)‏‏.‏

هكذا ذكره موقوفًا وله حكم الرفع لأن مثله لا يقال من قبل الرأي كما قال العراقي‏.‏

وعن سمرة عند أبي داود والنسائي عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏من ترك الجمعة من غير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار‏)‏‏.‏

وعن أسامة بن زيد عند الطبراني في الكبير قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ من ترك ثلاث جمع من غير عذر كتب من المنافقين‏)‏ وفي إسناده جابر الجعفي وقد ضعفه الجمهور‏.‏

وعن أنس عند الديلمي في مسند الفردوس قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ من ترك ثلاث جمع متواليات من غير عذر طبع اللَّه على قلبه‏)‏‏.‏

وعن عبد اللَّه بن أبي أوفى عند الطبراني في الكبير قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ من سمع النداء يوم الجمعة ولم يأتها ثم سمع النداء ولم يأتها ثلاثًا طبع على قلبه فجعل قلب منافق‏)‏ قال العراقي‏:‏ وإسناده جيد‏.‏

وعن عقبة بن عامر عند أحمد في حديث طويل فيه‏:‏ ‏(‏أناس يحبون اللبن ويخرجون من الجماعات ويدعون الجمعات‏)‏ وفي إسناده ابن لهيعة‏.‏

وعن أبي قتادة عند أحمد أيضًا بنحو حديث جابر الأول‏.‏ وعن كعب بن مالك عند الطبراني في الكبير بنحو حديث أبي هريرة وابن عمر المذكور في الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يتخلفون عن الجمعة‏)‏ قال في الفتح‏:‏ قد اختلف في تسمية اليوم بالجمعة مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية العروبة بفتح العين وضم الراء وبالموحدة فقيل سمي بذلك لأن كمال الخلق جمع فيه ذكره أبو حذيفة عن ابن عباس وإسناده ضعيف‏.‏ وقيل لأن خلق آدم جمع فيه وردَّ ذلك من حديث سلمان عند أحمد وابن خزيمة وغيرهما وله شاهد عن أبي هريرة ذكره ابن أبي حاتم موقوفًا بإسناد قوي وأحمد مرفوعًا بإسناد ضعيف وهذا أصح الأقوال‏.‏ ويليه ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين بسند صحيح إليه في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة وكانوا يسمونه يوم العروبة فصلى بهم وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه‏.‏

وقيل لأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه ويذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم بأنه سيبعث منه نبي روى ذلك الزبير في كتاب النسب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مقطوعًا وبه جزم الفراء وغيره وقيل أن قصيًا هو الذي كان يجمعهم ذكره ثعلب في أماليه‏.‏ وقيل سمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه وبهذا جزم ابن حزم فقال‏:‏ إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية وأنه كان يسمى يوم العروبة‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وفيه نظر فقد قال أهل اللغة أن العروبة اسم قديم كان للجاهلية وقالوا في الجمعة هو يوم العروبة فالظاهر أنهم غيروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تسمى أول أهون جبار دبار مونس عروبة شيار‏.‏

قال الجوهري‏:‏ وكانت العرب تسمي يوم الاثنين أهون في أسمائهم القديمة وهذا يشعر بأنهم أحدثوا لها اسمًا وهي هذه المتعارفة كالسبت والأحد الخ‏.‏ وقيل إن أول من سمى الجمعة العروبة كعب بن لؤي وبه جزم بعض أهل اللغة‏.‏ والجمعة بضم الجيم على المشهور وقد تسكن وقرأ بها الأعمش وحكى الفراء فتحها وحكى الزجاج كسرها‏.‏ قال النووي‏:‏ ووجهوا الفتح بأنها تجمع الناس ويكثرون فيها كما يقال همزة ولمزة لكثير الهمز واللمز ونحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقد هممت‏)‏ الخ قد استدل بذلك على أن الجمعة من فروض الأعيان وأجيب عن ذلك بأجوبة قدمنا ذكرها في أبواب الجماعة وسيأتي بيان ما هو الحق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ودعهم‏)‏ أي تركهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو ليختمن اللَّه تعالى‏)‏ الختم الطبع والتغطية قال القاضي عياض‏:‏ اختلف المتكلمون في هذا اختلافًا كثيرًا فقيل هو إعدام اللطف وأسباب الخير‏.‏ وقيل هو خلق الكفر في صدورهم وهو قول أكثر متكلمي أهل السنة يعني الأشعرية‏.‏ وقال غيرهم‏:‏ هو الشهادة عليهم‏.‏ وقيل هو علامة جعلها اللَّه تعالى في قلوبهم ليعرف بها الملائكة من يمدح ومن يذم‏.‏

قال العراقي‏:‏ والمراد بالطبع على قلبه أنه يصير قلبه قلب منافق كما تقدم في حديث ابن أبي أوفى وقد قال تعالى في حق المنافقين ‏{‏فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثلاث جمع‏)‏ يحتمل أن يراد حصول الترك مطلقًا سواء توالت الجمعات أو تفرقت حتى لو كان ترك في كل سنة جمعة لطبع اللَّه تعالى على قلبه بعد الثالثة وهو ظاهر الحديث‏.‏ ويحتمل أن يراد ثلاث جمع متوالية كما تقدم في حديث أنس لأن موالاة الذنب ومتابعته مشعرة بقلة المبالاة به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تهاونًا‏)‏ فيه أن الطبع المذكور إنما يكون على قلب من ترك ذلك تهاونًا فينبغي حمل الأحاديث المطلقة على هذا الحديث المقيد بالتهاون وكذلك تحمل الأحاديث المطلقة على المقيدة بعدم العذر كما تقدم‏.‏

ـ وقد استدل ـ بأحاديث الباب على أن الجمعة من فروض الأعيان وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ الجمعة فرض بإجماع الأمة‏.‏ وقال ابن قدامة في المغني‏:‏ أجمع المسلمون على وجوب الجمعة وقد حكى الخطابي الخلاف في أنها من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات وقال‏:‏ قال أكثر الفقهاء هي من فروض الكفايات وذكر ما يدل على أن ذلك قول للشافعي وقد حكاه المرعشي عن قوله القديم‏.‏ قال الدارمي‏:‏ وغلطوا حاكيه‏.‏ وقال أبو إسحاق المروزي‏:‏ لا يجوز حكاية هذا عن الشافعي وكذلك حكاه الروياني عن حكاية بعضهم وغلطه‏.‏ قال العراقي‏:‏ نعم هو وجه لبعض الأصحاب قال‏:‏ وأما ما ادعاه الخطابي من أكثر الفقهاء قالوا أن الجمعة فرض على الكفاية ففيه نظر فإن مذاهب الأئمة الأربعة متفقة على أنها فرض عين لكن بشروط يشترطها أهل كل مذهب‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ وحكى ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة ثم قال‏:‏ قلنا له تأويلان أحدهما أن مالكًا يطلق السنة على الفرض‏.‏ الثاني أنه أراد سنة على صفتها لا يشاركها فيه سائر الصلوات حسب ما شرعه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وفعله المسلمون‏.‏ وقد روى ابن وهب عن مالك عزيمة الجمعة على كل من سمع النداء انتهى‏.‏

ـ ومن جملة الأدلة ـ الدالة على أن الجمعة من فرائض الأعيان قول اللَّه تعالى ‏{‏إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا‏}‏ ومنها حديث طارق بن شهاب الآتي في الباب الذي بعد هذا‏.‏ ومنها حديث حفصة الآتي أيضًا‏.‏ ومنها ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أنه سمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض اللَّه تعالى عليهم واختلفوا فيه فهدانا اللَّه تعالى له فالناس لنا تبع فيه‏)‏ الحديث‏.‏

وقد استنبط منه البخاري فرضية صلاة الجمعة وبوب عليه باب فرض الجمعة وصرح النووي والحافظ بأنه يدل على الفرضية قالا‏:‏ لقوله فرض اللَّه تعالى عليهم فهدانا له فإن التقدير فرض عليهم وعلينا فضلوا وهدينا وقد وقع في مسلم في رواية سفيان عن أبي الزناد بلفظ‏:‏ ‏(‏كتب علينا‏)‏ وقد أجاب عن هذه الأدلة من لم يقل بأنها فرض عين بأجوبة‏:‏ أما عن حديث أبي هريرة الذي ذكره المصنف فيما تقدم في الجماعة‏.‏ وأما عن سائر الأحاديث المشتملة على الوعيد فبصرفها إلى من ترك الجمعة تهاونًا حملًا للمطلق على المقيد ولا نزاع في أن التارك لها تهاونًا مستحق للوعيد المذكور وإنما النزاع فيمن تركها غير متهاون‏.‏

وأما عن الآية فبما يقضي به آخرها أعني قوله ‏{‏ذلكم خير لكم‏}‏ من عدم فرضية العين‏.‏ وأما عن حديث طارق فبما قيل فيه من الإرسال وسيأتي‏.‏ وأما عن حديث أبي هريرة الآخر فبمنع استلزام افتراض يوم الجمعة على من قبلنا افتراضه علينا وأيضًا ليس فيه افتراض صلاة الجمعة عليهم ولا علينا‏.‏ وقد ردت هذه الأجوبة بردود‏.‏

ـ والحق ـ أن الجمعة من فرائض الأعيان على سامع النداء ولو لم يكن في الباب إلا حديث طارق وأم سلمة الآتيين لكانا مما تقوم به الحجة على الخصم‏.‏ والاعتذار عن حديث طارق بالإرسال ستعرف اندفاعه وكذلك الاعتذار بأن مسجد النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان صغيرًا لا يتسع هو ورحبته لكل المسلمين وما كانت تقام الجمعة في عهده صلى اللَّه عليه وآله وسلم بأمره إلا في مسجده وقبائل العرب كانوا مقيمين في نواحي المدينة مسلمين ولم يؤمروا بالحضور مدفوع بأن تخلف المتخلفين عن الحضور بعد أمر اللَّه تعالى به وأمر رسوله والتوعد الشديد لمن لم يحضر لا يكون حجة إلا على فرض تقريره صلى اللَّه عليه وآله وسلم للمتخلفين على تخلفهم واختصاص الأوامر بمن حضر جمعته صلى اللَّه عليه وآله وسلم من المسلمين وكلاهما باطل‏.‏

أما الأول فلا يصح نسبة التقرير إليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بعد همه بإحراق المتخلفين عن الجمعة وإخباره بالطبع على قلوبهم وجعلها كقلوب المنافقين‏.‏ وأما الثاني فمع كونه قصرًا للخطابات العامة بدون برهان ترده أيضًا تلك التوعدات للقطع بأنه لا معنى لتوعد الحاضرين ولتصريحه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بأن ذلك الوعيد للمتخلفين وضيق مسجده صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا يدل على عدم الفرضية إلا على فرض أن الطلب مقصور على مقدار ما يتسع له من الناس أو عدم إمكان إقامتها في البقاع التي خارجه وفي سائر البقاع وكلاهما باطل‏.‏ أما الأول فظاهر وأما الثاني فكذلك أيضًا لإمكان إقامتها في تلك البقاع عقلًا وشرعًا‏.‏

‏(‏لا يقال‏)‏ عدم أمره صلى اللَّه عليه وآله وسلم بإقامتها في غير مسجده يدل على عدم الوجوب لأنا نقول الطلب العام يقتضي وجوب صلاة الجمعة على كل فرد من أفراد المسلمين ومن لا يمكنه إقامتها في مسجده صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا يمكنه الوفاء بما طلبه الشارع إلا بإقامتها في غيره وما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه كما تقرر في الأصول‏.‏

 باب من تجب عليه ومن لا تجب

1 - عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الجمعة على من سمع النداء‏)‏‏.‏

رواه أبو داود والدارقطني‏.‏ وقال فيه‏:‏ ‏(‏إنما الجمعة على من سمع النداء‏)‏‏.‏

الحديث قال أبو داود في السنن‏:‏ رواه جماعة عن سفيان مقصورًا على عبد اللَّه بن عمرو ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة انتهى‏.‏

وفي إسناده محمد بن سعيد الطائفي قال المنذري‏:‏ وفيه مقال وقال في التقريب‏:‏ صدوق‏.‏ وقال أبو بكر بن أبي داود هو ثقة قال‏:‏ وهذه سنة تفرد بها أهل الطائف انتهى‏.‏ وقد تفرد به محمد بن سعيد عن شيخه أبي سلمة وتفرد به أبو سلمة عن شيخه عبد اللَّه بن هارون وقد ورد من حديث عبد اللَّه بن عمرو من وجه آخر أخرجه الدارقطني من رواية الوليد عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا والوليد وزهير كلاهما من رجال الصحيح‏.‏ قال العراقي‏:‏ لكن زهير روى عن أهل الشام مناكير منهم الوليد والوليد مدلس وقد رواه بالعنعة فلا يصح‏.‏

ورواه الدارقطني أيضًا من رواية محمد بن الفضل بن عطية عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ومحمد بن الفضل ضعيف جدًا والحجاج هو ابن أرطأة وهو مدلس مختلف في الاحتجاج به‏.‏ ورواه أيضًا البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا‏.‏

والحديث يدل على أن الجمعة لا تجب إلا على من سمع النداء وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق حكى ذلك الترمذي عنهم وحكاه ابن العربي عن مالك وروى ذلك عن عبد اللَّه بن عمرو راوي الحديث‏.‏

وحديث الباب وإن كان فيه المقال المتقدم فيشهد لصحته قوله تعالى ‏{‏إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة‏}‏ الآية‏.‏

قال النووي في الخلاصة‏:‏ إن البيهقي قال‏:‏ له شاهد فذكره بإسناد جيد‏.‏ قال العراقي‏:‏ وفيه نظر قال‏:‏ ويغني عنه حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال‏:‏ ‏(‏أتى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم رجل أعمى فقال‏:‏ يا رسول اللَّه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال‏:‏ هل تسمع النداء بالصلاة قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فأجب‏)‏‏.‏

وروى نحوه أبو داود بإسناد حسن عن ابن أم مكتوم قال‏:‏ فإذا كان هذا في مطلق الجماعة فالقول به في خصوصية الجمعة أولى والمراد بالنداء المذكور في الحديث هو النداء الواقع بين يدي الإمام في المسجد لأنه الذي كان في زمن النبوة لا الواقع على المنارات فإنه محدث كما سيأتي‏.‏

وظاهره عدم وجوب الجمعة على من لم يسمع النداء سواء كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة أو في خارجه وقد ادعى في البحر الإجماع على عدم اعتبار سماع النداء في موضعها واستدل لذلك بقوله إذا لم تعتبره الآية وأنك تعلم أن الآية قد قيد الأمر بالسعي فيها بالنداء لما تقرر عند أئمة البيان من أن الشرط قيد الحكم الجزاء والنداء المذكور فيها يستوي فيه من في المصر الذي تقام فيه الجمعة ومن خارجه نعم إن صح الإجماع كان هو الدليل على عدم اعتبار سماع النداء لمن في موضع إقامة الجمعة عند من قال بحجية الإجماع وقد حكى العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل أنهم يوجبون الجمعة على أهل المصر وإن لم يسمعوا النداء وقد اختلف أهل العلم فيمن كان خارجًا عن البلد الذي تقام فيه الجمعة فقال عبد اللَّه بن عمر وأبو هريرة وأنس والحسن وعطاء ونافع وعكرمة والحكم والأوزاعي والإمام يحيى‏:‏ إنها تجب على من يؤويه الليل إلى أهله والمراد أنه إذا جمع مع الإمام أمكنه العود إلى أهله آخر النهار وأول الليل واستدلوا بما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الجمعة على من أواه الليل إلى أهله‏)‏ قال الترمذي‏:‏ وهذا إسناد ضعيف إنما يروى من حديث معارك بن عباد عن عبد اللَّه بن سعيد المقبري وضعف يحيى بن سعيد القطان عبد اللَّه بن سعيد المقبري في الحديث انتهى‏.‏

وقال العراقي‏:‏ إنه غير صحيح فلا حجة فيه‏.‏ وذهب الهادي والناصر ومالك إلى أنها تلزم من سمع النداء بصوت الصيت من سور البلد‏.‏ وقال عطاء‏:‏ تلزم من على عشرة أميال‏.‏ وقال الزهري‏:‏ من على ستة أميال‏.‏ وقال ربيعة‏:‏ من على أربعة‏.‏ وروي عن مالك ثلاثة‏.‏ وروي عن الشافعي فرسخ وكذلك روي عن أحمد‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ وهذا قول أصحاب الرأي‏.‏ وروي في البحر عن زيد بن علي والباقر والمؤيد باللَّه وأبي حنيفة وأصحابه أنها لا تجب على من كان خارج البلد‏.‏ وقد استدل بحديث الباب على أن الجمعة من فروض الكفايات حتى قال في ضوء النهار‏:‏ إنه يدل على ذلك بلا شك ولا شبهة وردَّ بأنه ليس في الحديث إلا أنها من فرائض الأعيان على سامع النداء فقط وليس فيه أنها فرض كفاية على من لم يسمع بل مفهومه يدل على أنها لا تجب عليه لا عينًا ولا كفاية‏.‏

2 - وعن حفصة رضي اللَّه عنها‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ رواح الجمعة واجب على كل محتلم‏)‏‏.‏

رواه النسائي‏.‏

3 - وعن طارق بن شهاب رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض‏)‏‏.‏

رواه أبو داود وقال‏:‏ طارق بن شهاب قد رأى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ولم يسمع منه شيئًا‏.‏

الحديث الأول رجال إسناده رجال الصحيح إلا عياش بن عياش وقد وثقه العجلي‏.‏ والحديث الآخر أخرجه أيضًا الحاكم من حديث طارق هذا عن أبي موسى‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وصححه غير واحد‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ ليس إسناد هذا الحديث بذاك وطارق بن شهاب لا يصح له سماع من النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلا أنه قد لقي النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏.‏ قال العراقي‏:‏ فإذا قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح وغايته أن يكون مرسل صحابي وهو حجة عند الجمهور وإنما خالف فيه أبو إسحاق الإسفرايني بل ادعى بعض الحنفية الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة اهـ‏.‏ على أنه قد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى وقد شد من عضد هذا الحديث حديث حفصة المذكور في الباب ويؤيده أيضًا ما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر بلفظ‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا امرأة أو مسافرًا أو عبدًا أو مريضًا‏)‏ وفي إسناده ابن لهيعة ومعاذ بن محمد الأنصاري وهما ضعيفان‏.‏

ـ وفي الباب ـ عن تميم الداري عند العقيلي والحاكم أبي أحمد وفيه أربعة ضعفاء على الولاء قاله ابن القطان‏.‏ وعن ابن عمر عند الطبراني في الأوسط‏.‏ وعن مولى لأبي الزبير عند البيهقي‏.‏ وعن أبي هريرة ذكره الحافظ في التلخيص وذكره صاحب مجمع الزوائد وقال‏:‏ فيه إبراهيم بن حماد ضعفه الدارقطني‏.‏

وعن أم عطية بلفظ‏:‏ ‏(‏نهينا عن إتباع الجنائز ولا جمعة علينا‏)‏ أخرجه ابن خزيمة‏.‏

وقد استدل بحديثي الباب على أن الجمعة من فرائض الأعيان وقد تقدم الكلام على ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد مملوك‏)‏ فيه أن الجمعة غير واجبة على العبد وقال داود‏:‏ إنها واجبة عليه لدخوله تحت عموم الخطاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو امرأة‏)‏ فيه عدم وجوب الجمعة على النساء أما غير العجائز فلا خلاف في ذلك وأما العجائز فقال الشافعي‏:‏ يستحب لهن حضورها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو صبي‏)‏ فيه أن الجمعة غير واجبة على الصبيان وهو مجمع عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو مريض‏)‏ فيه أن المريض لا تجب عليه الجمعة إذا كان الحضور يجلب عليه مشقة‏.‏ وقد ألحق به الإمام يحيى وأبو حنيفة الأعمى وإن وجد قائدًا لما في ذلك من المشقة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إنه غير معذور عن الحضور إن وجد قائدًا‏.‏

وظاهر حديث أبي هريرة وابن أم مكتوم المتقدمين في شرح الحديث الذي في أول هذا الباب أنه غير معذور مع سماعه للنداء وإن لم يجد قائدًا لعدم الفرق بين الجمعة وغيرها من الصلوات وقد تقدم الكلام على الحديثين في أول أبواب الجماعة‏.‏

ـ واختلف ـ في المسافر هل تجب عليه الجمعة إذا كان نازلًا أم لا فقال الفقهاء وزيد بن علي والناصر والباقر والإمام يحيى‏:‏ إنها لا تجب عليه ولو كان نازلًا وقت إقامتها واستدلوا بما تقدم في حديث جابر من استثناء المسافر وكذا استثناء المسافر في حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه‏.‏ وقال الهادي والقاسم وأبو العباس والزهري والنخعي‏:‏ إنها تجب على المسافر إذا كان نازلًا وقت إقامتها لا ـ إذا كان سائرًا ومحل الخلاف هل يطلق اسم المسافر على من كان نازلًا أو يختص بالسائر وقد تقدم الكلام على ذلك في أبواب صلاة السفر‏.‏

4 - وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها حتى يطبع اللَّه تعالى على قلبه‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه‏.‏

الحديث هو عند ابن ماجه كما ذكره المصنف من رواية محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة وأخرجه الحاكم أيضًا وفي إسناده معدى بن سليمان وفيه مقال‏.‏ وروى نحوه الطبراني وأحمد من حديث حارثة بن النعمان وروى أيضًا نحوه الطبراني من حديث ابن عمر وقد تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن يتخذ صبة‏)‏ بصاد مهملة مضمومة وبعدها باء موحدة مشددة قال في النهاية‏:‏ هي من العشرين إلى الأربعين ضأنًا ومعزًا‏.‏ وقيل معزًا خاصة وقيل ما بين الستين إلى السبعين ولفظ حديث ابن عمر أن يتخذ الضبنة قال العراقي‏:‏ بكسر الضاد المعجمة ثم باء موحدة ساكنة ثم نون هي ما تحت يدك من مال أو عيال اهـ‏.‏

وفي القاموس في فصل الصاد المهملة من باب الباء الموحدة ما لفظه‏:‏ والصبة بالضم ما صب من طعام وغيره ثم قال‏:‏ والسربة من الخيل والإبل والغنم أو ما بين العشرة إلى الأربعين أو هي من الإبل ما دون المائة‏.‏ وقال في فصل الضاد المعجمة من حرف النون‏:‏ الضبنة مثلثة وكفرحة العيال ومن لا غناء فيه ولا كفاية من الرفقاء‏.‏

والحديث فيه الحث على حضور الجمعة والتوعد على التشاغل عنها بالمال وفيه أنها لا تسقط عمن كان خارجًا عن بلد إقامتها وأن طلب الكلأ ونحوه لا يكون عذرًا في تركها‏.‏

5 - وعن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي اللَّه عنهم قال‏:‏ ‏(‏بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم جمعة قال‏:‏ فتقدم أصحابه وقال‏:‏ أتخلف فأصلي مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم الجمعة ثم ألحقهم قال‏:‏ فلما صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم رآه فقال‏:‏ ما منعك أن تغدو مع أصحابك فقال‏:‏ أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم قال‏:‏ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما أدركت غدوتهم‏)‏‏.‏

رواه أحمد والترمذي‏.‏ وقال شعبة لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أحاديث وعدها وليس هذا الحديث فيما عده‏.‏

6 - وعن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أنه أبصر رجلًا عليه هيئة السفر فسمعه يقول‏:‏ لولا أن اليوم يوم جمعة لخرجت فقال عمر‏:‏ اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر‏)‏‏.‏

رواه الشافعي في مسنده‏.‏

أما حديث ابن عباس فقال الترمذي‏:‏ إنه غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ثم قال‏:‏ قال يحيى بن سعيد قال شعبة وذكر الكلام الذي ذكره المصنف وفي إسناده الحجاج بن أرطأة قال البيهقي‏:‏ انفرد به الحجاج وهو ضعيف‏.‏ وقال العراقي في شرح الترمذي‏:‏ ضعفه الجمهور ومال ابن العربي إلى تصحيح الحديث وقال ما قاله شعبة لا يؤثر في الحديث وقال‏:‏ هو صحيح السند صحيح المعنى لأن الغزو أفضل من الجماعة في الجمعة وغيرها وطاعة النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في الغزو أفضل من طاعته في صلاة الجماعة وتعقبه العراقي فقال‏:‏ هذا الكلام ليس جاريًا على قواعد أهل الحديث ولا يلزم من كون المعنى صحيحًا أن يكون السند صحيحًا فإن شرط صحة الإسناد اتصاله فالمنقطع ليس من أقسام الصحيح عند عامة العلماء وهم الذين لا يحتجون بالمرسل فكل من لا يحتج بالمرسل لا يحتج بعنعنة المدلس بل حكى النووي في شرح المهذب وغيره اتفاق العلماء على أنه لا يحتج بعنعنة المدلس مع احتمال الاتصال فكيف مع تصريح شعبة وهو أمير المؤمنين في الحديث بأن الحكم لم يسمعه من مقسم فلو ثبت الحديث لكان حجة واضحة وإذا لم يثبت فالحجة قائمة بغيره من حيث تعارض الواجبات وأنه يقدم أهمها ولا شك أن الغزو أهم من صلاة الجمعة إذ الجمعة لها خلف عند فوتها بخلاف الغزو خصوصًا إذا تعين فإنه يجب تقديمه وأيضًا فالجمعة لم تجب قبل الزوال وإن وجب السعي إليها قبله في حق من سمع النداء ولا يمكنه إدراكها إلا بالسعي إليها قبله ومن هذه حاله يمكن أن يكون حكمه عند ذلك حكم ما بعد الزوال اهـ‏.‏

وأما الأثر المروي عن عمر فذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه‏.‏ وروى سعيد بن منصور أن أبا عبيدة سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة‏.‏ وأخرج أبو داود في المراسيل وابن أبي شيبة عن الزهري‏:‏ ‏(‏أنه أراد أن يسافر يوم الجمعة ضحوة فقيل له في ذلك فقال‏:‏ إن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم سافر يوم الجمعة‏)‏ وفي مقابل ذلك ما أخرجه الدارقطني في الأفراد عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏(‏من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره‏)‏ وفي إسناده ابن لهيعة وهو مختلف فيه وما أخرجه الخطيب في كتاب أسماء الرواة عن مالك من رواية الحسين بن علوان عنه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ من سافر يوم الجمعة دعا عليه ملكاه أن لا يصاحب في سفره ولا تقضى له حاجة‏)‏‏.‏

ثم قال الخطيب‏:‏ الحسين بن علوان غيره أثبت منه‏.‏ قال العراقي‏:‏ قد ألان الخطيب الكلام في الحسين هذا وقد كذبه يحيى بن معين ونسبه ابن حبان إلى الوضع وذكر له الذهبي في الميزان هذا الحديث وأنه مما كذب فيه على مالك‏.‏ وقد اختلف العلماء في جواز السفر يوم الجمعة من طلوع الفجر إلى الزوال على خمسة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ الجواز قال العراقي‏:‏ وهو قول أكثر العلماء‏.‏ فمن الصحابة عمر بن الخطاب والزبير بن العوام وأبو عبيدة بن الجراح وابن عمر‏.‏ ومن التابعين الحسن وابن سيرين والزهري‏.‏ ومن الأئمة أبو حنيفة ومالك في الرواية المشهورة عنه والأوزاعي وأحمد بن حنبل في الرواية المشهورة عنه وهو القول القديم للشافعي وحكاه ابن قدامة عن أكثر أهل العلم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ المنع منه وهو قول الشافعي في الجديد وهو إحدى الروايتين عن أحمد وعن مالك‏.‏

والثالث‏:‏ جوازه لسفر الجهاد دون غيره وهو إحدى الروايات عن أحمد‏.‏

والرابع‏:‏ جوازه للسفر الواجب دون غيره وهو اختيار أبي إسحاق المروزي من الشافعية ومال إليه إمام الحرمين‏.‏

والخامس‏:‏ جوازه لسفر الطاعة واجبًا كان أو مندوبًا وهو قول كثير من الشافعية وصححه الرافعي‏.‏

وأما بعد الزوال من يوم الجمعة فقال العراقي‏:‏ قد ادعى بعضهم الاتفاق على عدم جوازه وليس كذلك فقد ذهب أبو حنيفة والأوزاعي إلى جوازه كسائر الصلوات وخالفهم في ذلك عامة العلماء وفرقوا بين الجمعة وبين غيرها من الصلوات بوجوب الجماعة في الجمعة دون غيرها والظاهر جواز السفر قبل دخول وقت الجمعة وبعد دخوله لعدم المانع من ذلك وحديث أبي هريرة وكذلك حديث ابن عمر لا يصلحان للاحتجاج بهما على المنع لما عرفت من ضعفهما ومعارضة ما هو أنهض منهما ومخالفتهما لما هو الأصل فلا ينتقل عنه إلا بناقل صحيح ولم يوجد وأما وقت صلاة الجمعة فالظاهر عدم الجواز لمن قد وجب عليه الحضور إلا أن يخشى حصول مضرة من تخلفه للجمعة كالانقطاع عن الرفقة التي لا يتمكن من السفر إلا معها وما شابه ذلك من الأعذار وقد أجاز الشارع التخلف عن الجمعة لعذر المطر فجوازه لما كان أدخل في المشقة منه أولى‏.‏